فلقد أفضت مفاوضات عسيرة ومكثفة بين مختلف الأحزاب السياسية انطلقت مباشرة بعد انتخابات 10 نونبر 2019، إلى تشكيل حكومة بقيادة الزعيم الاشتراكي بيدرو سانشيز، تتكون لأول مرة في التاريخ الديمقراطي لإسبانيا من حزبين سياسيين من اليسار، هما الحزب العمالي الاشتراكي وتحالف أقصى اليسار (يونيداس بوديموس).
وشرعت الحكومة الائتلافية الجديدة (155 نائبا بمجلس النواب) مباشرة بعد تنصيبها، في تنزيل برنامجها السياسي والاقتصادي يحدوها أمل كبير في النهوض بمختلف الأوضاع قبل أن تأتي الجائحة وتضرب بقوة كل ما تم ترتيبه وتدفع بالتالي إلى تغيير الأولويات ووقف كل هذا الطموح، لتتوجه الحكومة بكل قوتها مدعومة بكل القوى الاقتصادية والمجتمعية لمواجهة هذه الجائحة ومحاولة وقف تداعياتها الكارثية على مختلف بنيات وهياكل المجتمع الإسباني.
ومع توالي حالات الإصابة بفيروس كورونا المستجد، التي بدأت أولاها تظهر منذ شهر فبراير من نفس العام، عبأت الحكومة الإسبانية التي تركت أولويات برنامجها السياسي والاقتصادي كل الإمكانيات لمواجهة والتصدي لهذه الجائحة ووجهت كل مجهوداتها السياسية والتنظيمية والمالية لوقف زحف وتمدد انتشار العدوى عبر قرارات وتدابير استثنائية مدعومة باستثمارات مالية كبيرة، لمحاصرة تفشي الوباء ووقف تداعياته الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية المدمرة.
وإلى جانب الإعلان عن حالة الطوارئ في البلاد منذ 14 مارس التي استهدفت الحد من توسع رقعة انتشار فيروس (كوفيدـ19)، وهو القرار الذي جاء كما قال بيدرو سانشيز رئيس الحكومة كـ "إجراء استثنائي يهدف بالأساس إلى مواجهة حالة استعجالية وطارئة تهدد صحة ورفاهية الجميع" وتضمن اعتماد الإغلاق الشامل والحجر الصحي بمجموع التراب الإسباني، اعتمدت الحكومة تدابير وإجراءات غير مسبوقة لمواجهة تداعيات الجائحة وتأثيراتها الاقتصادية والاجتماعية رصد لها غلاف مالي إجمالي يصل إلى 200 مليار أورو، وهو ما يمثل 20 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي الإسباني.
وتضمن هذا المخطط الاستعجالي تدابير وقرارات استهدفت بشكل خاص دعم وتعزيز القطاع الصحي وتقوية آلياته وحماية حياة الأسر، مع دعم الشركات والمقاولات والقطاعات المتضررة، خاصة السياحة والمقاولات الصغرى والمتوسطة.
ورغم الإغلاق التام والحجر الصحي ووقف كل الأنشطة الاقتصادية غير الأساسية، وحتى إغلاق محيط الجهات المستقلة وكل البلديات والأقاليم وفرض القيود المشددة على حركة تنقل الأشخاص واعتماد تدابير وقائية صارمة، واصلت الجائحة زحفها، ما جعل إسبانيا تصبح مع توالي الشهور والأيام إحدى أكثر الدول الأوربية تضررا جراء وباء (كوفيدـ19)، من خلال تسجيلها لأرقام قياسية في عدد حالات الإصابة وعدد حالات الوفيات.
وفي محاولة لإنقاذ ما تبقى من الموسم السياحي وإطلاق الانتعاشة الاقتصادية، سارعت إسبانيا يوم 21 يونيو إلى رفع حالة الطوارئ التي استمرت 98 يوما من أجل العودة لما تسميه "الوضع الطبيعي الجديد"، وكلها أمل في أن تستعيد بعضا مما ذرته رياح جائحة فيروس كورونا المستجد، وتدارك ما فات والعمل على بعث الحيوية في مفاصل الاقتصاد الإسباني بجميع مكوناته.
لكن كل ذلك تبخر بعد رفع حالة الطوارئ الأولى وفتح الحياة أمام السكان الذين حاولوا تعويض أيام الحجر والإغلاق التام، لاسيما وأن العودة إلى الحياة الطبيعية صادفت بداية أشهر الصيف لتحصل الانتكاسة وتبدأ مؤشرات حالات الإصابة في الارتفاع لتتجاوز مع دخول شهر أكتوبر الماضي مليونا و46 ألفا و132 حالة إصابة وأزيد من 34 ألف حالة وفاة، ما اضطر إسبانيا بعد أقل من أربعة أشهر إلى الإعلان عن حالة طوارئ ثانية جديدة يوم 25 أكتوبر في محاولة لوقف انتشار الموجة الثانية من الوباء، الذي جعل من الدولة الإيبيرية أول بلد أوروبي يتخطى عتبة المليون حالة إصابة مؤكدة، وبالتالي الأكثر تضررا بهذه الجائحة.
وتواصل السلطات الإسبانية في ظل حالة الطوارئ الثانية التي تقرر تمديدها حتى 9 ماي المقبل، والتي أطلقت يد الجهات الـ 17 التي تتمتع بنظام الحكم الذاتي، صاحبة الاختصاص في تدبير القطاع الصحي، اعتماد قيود مشددة وتدابير احترازية صارمة، من بينها الإغلاق الجزئي لمحيط الجهات وحصر حركة التنقل واعتماد إجراء حظر التجول الليلي، وذلك في محاولة لمواجهة المنحى التصاعدي لعدد حالات الإصابة المؤكدة بالفيروس الذي تعيش على إيقاعه مختلف المناطق بالبلاد منذ أسابيع، والذي بلغ حتى الآن مليونا و720 ألف حالة إصابة مؤكدة بالمرض و47 ألفا و344 حالة وفاة.
وقد دخلت إسبانيا جراء الجائحة في دوامة معركة أتت على الأخضر واليابس وتسببت في ركود اقتصادي غير مسبوق، حيث تشير توقعات المفوضية الأوربية إلى أن نمو الناتج المحلي الإجمالي لإسبانيا خلال عام 2020 سيسجل نسبة سالبة تقدر بـ 4ر12 في المائة، وهو ما يمثل أكبر انكماش في دول الاتحاد الأوربي مع تدهور في كل مكونات ودعامات الاقتصاد الإسباني، خاصة السياحة والصناعة والتجارة، والذي ستستمر تداعياته لوقت طويل.
لكن وكما انطلقت سنة 2020 التي ستبقى موسومة في ذاكرة الإنسانية ضمن خانة تواريخ الجوائح والأوبئة والكوارث بآمال كبيرة بالإعلان عن تشكيل أول حكومة ائتلافية في التاريخ الديمقراطي لإسبانيا، قبل أن تتناثر هذه الآمال على وقع الضربات المتتالية لجائحة (كوفيدـ19)، فإن الأنفاس الأخيرة من هذا العام قد أنعشت مرة أخرى الآمال من جديد بعد مصادقة مجلس النواب الإسباني (الغرفة السفلى للبرلمان) يوم 3 دجنبر، وبأغلبية مريحة، على مشروع قانون المالية للعام 2021 بعد حصوله على دعم 11 حزبا سياسيا.
ووافقت الجلسة العامة لمجلس النواب بالأغلبية المطلقة على الميزانية العامة للدولة لعام 2021 بـ 189 صوتا مؤيدا، وهو ما يمثل نسبة 54 في المائة من عدد نواب المجلس (350 نائبا) مقابل رفض 154 نائبا.
وبالفعل، فقد شكلت المصادقة على مشروع الميزانية العامة للدولة لعام 2021 فرصة لإسبانيا، وكما قال بيدرو سانشيز رئيس الحكومة الإسبانية "حتى تودع حقبة سابقة وتتقدم بتصميم وإرادة من أجل تحقيق مستقبل من التقدم والازدهار".
وشدد سانشيز على أن القانون المالي لعام 2021 هو "الأكثر تجديدا وكذا الأكثر اهتماما بالجوانب الاجتماعية من أجل مواجهة أسوأ أزمة عرفتها البلاد منذ قرن"، مشيدا بكل أولئك الذين قدموا دعمهم ومساندتهم لهذا المشروع.
فهل يبشر تمرير القانوني المالي بمجلس النواب الذي اعتبره العديد من المراقبين بمثابة إعادة منح الثقة للحكومة الائتلافية الإسبانية وانطلاقة واثقة لتنزيل برنامجها السياسي والاقتصادي بمرحلة جديدة ستدخلها إسبانيا، من أجل رفع كل التحديات التي اعترضت البلاد خلال هذا العام... ذاك ما ستكشف عنه الأيام والأسابيع الأولى من عام 2021.