فسوف نتذكر طويلا الصورة المثيرة للشفقة لرئيسة الوزراء، ميت فريدريكسن، وهي تبكي بصوت متقطع، مجددة التعبير في متم نونبر المنصرم عن اعتذارها لمربي حيوان المنك، بعد إصدار أمر ليس له سند قانوني، بالإبادة الجماعية لقطيع يبلغ تعداده ما بين 15 و17 مليون فرد.
ومما لا شك فيه، أنه إذا كانت هناك الكثير من الدموع والمشاعر، فلأن الوضع خطير، لدرجة أنه أدى إلى تعديل وزاري مصغر بعد استقالة وزير الفلاحة السابق في سياق الضغوط الشديدة الناجمة عن تدبيره المثير للجدل لإعدام حيوانات المنك.
وفي الواقع، وجدت الدنمارك نفسها عالقة في دوامة قانونية وسياسية غير مسبوقة، تفاقمت بسبب الصعوبات التي يواجهها المربون وشكوك العلماء. فطيلة هذا المأزق، الأصعب بالنسبة لحكومة الأقلية الاشتراكية-الديمقراطية الموجودة في السلطة منذ يونيو 2019، وجدت الصحافة المحلية وجبة دسمة في "فضيحة المنك".
فعلى خلفية الموجة الثانية من وباء "كوفيد-19"، قدم للدنماركيين إلى حد الشبع صور لا تطاق تظهر تارة، الآلاف من حيوانات المنك التي تم قتلها تساق في مقطورات صوب مقابر جماعية، وتارة أخرى أحشاء هذه الثدييات المسكينة المتناثرة في أزقة سبع بلديات توجد في نطاق الحجر.
ومنذ ذلك الحين، رفعت السلطات الإجراءات الصارمة المفروضة على 280 ألفا من سكان هذه البلديات، حيث تم تشخيص طفرة لفيروس كورونا من الحيوانات إلى البشر لدى 12 حالة. لكن المفاوضات لا زالت متعثرة بشأن تعويض المربين، بينما يتصاعد الغضب ويتأجج الجدل.
وفي 21 نونبر، تظاهر ما لا يقل عن 500 مزارع ومربي لحيوانات المنك، بالجرارات في كوبنهاغن، وتجول زهاء 400 آخرين في شوارع آرهوس، ثاني أكبر مدن البلاد، احتجاجا على قرار إبادة الملايين من هذه الحيوانات.
ولعل هذا يعني التأثير على إحدى أيقونات صناعة الفراء التي جعلت الدنمارك في الماضي أول مصدر لهذا المنتج الفاخر (40 بالمائة من الإنتاج العالمي).
وإلى جانب تفكيك 1139 مزرعة توفر 6000 منصب شغل، فإن تقليدا بأكمله يواجه خطر الاندثار، حتى مع تلميح الحكومة لمخرج يتيح مواصلة تربية هذه الحيوانات، وذلك من خلال اقتراح إنقاذ نحو 56 ألفا من حيوانات المنك المنتجة.
فحسب جمعية المربين، يبدو هذا المخرج "غير واقعي"، مؤكدة عدم يقينها "بسفينة نوح التي تحمل على متنها بضعة آلاف من حيوانات المنك. فلن ننقذ بذلك قطاعنا القائم على 2,5 مليون من الثدييات المنتجة، وعلى تنظيم مرتب بشكل جيد جيد مع مزادات تقام في جميع أنحاء العالم".
وفي هذا السياق، أعلنت "كوبنهاغن فيور"، التي تأسست عام 1930، وهي أول دار مزادات للفراء في العالم (300 موظف)، أنها ستغلق أبوابها، بسبب قرار طعن فيه مجتمع العلماء أنفسهم بسبب عدم وجود دراسة أثبتت خطورة الانتقال المخيف لسلالة فيروس كورونا المتحولة إلى البشر.
وعلى عكس بلدان أخرى تمكنت من التنفس خلال الفترة الصيفية بعد انخفاض الإصابات بفيروس كورونا المستجد، وجدت الدنمارك نفسها محاصرة في قلب موجة غير مسبوقة من شهادات التمييز على أساس الجنس، والإساءة والتحرش الجنسي التي تنتشر عبر الجسم الاجتماعي برمته.
فبعد نجاتها من الموجة الأولى للحركة الاجتماعية النسائية ميتو #في العام 2017، كان على الدولة الإسكندنافية، التي كانت تعتبر حتى وقت قريب "واحدة من أقل البلدان النسوية في العالم المتقدم"، مواجهة حقيقة محزنة.
فقد بدأ كل شيء في نهاية غشت، عندما فاجأت صوفي ليند، منشطة نجمة تبلغ من العمر 31 سنة، جمهور حفل تلفزيوني من خلال سرد الكيفية التي عرض عليها من خلالها مسؤول رفيع المستوى في التلفزيون العمومي، قبل اثني عشر عاما، تدعيم مسيرتها المهنية مقابل خدمة جنسية.
فبين الصدمة وعدم اليقين والتساؤل والإنكار، أصبحت الهمسات صخبا. وبدأت الأقفال تتناثر، والألسنة تلهج، والسكون ينكسر. وبعد مؤاخذتها في البداية لجرأتها، تلقت الصحفية الشابة التي تقف وراء الحركة دعم زملائها.
ومن الوسط الإعلامي إلى الطب، مرورا بالسياسة والأوساط الأكاديمية، لا تكاد توجد مهنة في منأى عن التمييز على أساس الجنس، ما أدى إلى سيل عرم من القصص المتتالية، والتي لا تشبه بعضها البعض.
فقد أضحى الجدل المتجدد كرة ثلج تزداد حجما في بلد يتمتع بصورة خارجية تحيل على أنه جنة المساواة بين الجنسين، حيث شوهت شهادات التمييز الجنسي، التي تناقلتها وسائل الإعلام وقامت بتضخيمها، صورة السياسيين بشكل خاص.
وكان آخر من دفع ضريبة ذلك زعيم الحزب الراديكالي مورتن أوسترغارد، الذي أُجبر على تقديم استقالته بعد أن اعترف بتحرشه وقضية اغتصاب في حق ثلاث نساء من حزبه. وتعكس نهاية ولايته من ست سنوات على رأس حزب يسار-الوسط، الحليف المؤثر للحزب الاشتراكي-الديمقراطي، حجم وزخم النقاش حول التمييز على أساس الجنس والتحرش الجنسي في أماكن العمل.
ولم تستثني شهادات الادعاء وزير الشؤون الخارجية، ييب كوفود، الذي اعترف بربط علاقة جنسية مع فتاة تبلغ من العمر 15 عاما في 2008، عندما كان عضوا في البرلمان الدنماركي ومتحدثا باسم السوسيو-ديموقراطيين للشؤون الخارجية.
وفي الوقت الذي لطخت فيه هذه الحلقة صورة البلاد قليلا، إلا أنها وحدت الشخصيات السياسية الرئيسية حول أهمية اتخاذ إجراءات، حتى "لا يحدث هذا مرة أخرى".
فصحيح أن موجة ميتو #أخمدت مؤقتا الانتقادات الموجهة لتدبير الموجة الأولى من "كوفيد-19"، تآخذ المعارضة الحكومة بالمضي قدما على نحو سريع، من خلال الأمر بفرض الحجر الصحي بالبلاد ابتداء من منتصف مارس؛ القرار الذي حظي بترحيب كبير في الدنمارك وخارجها.
وبعد تسعة أشهر، تتجه الدنمارك، البلد الذي يبلغ تعداد ساكنته 5,8 مليون نسمة، بلا هوادة، نحو 900 حالة وفاة ناجمة عن الوباء، الذي ينتشر بشكل مقلق بجهة كوبنهاغن، لاسيما لدى الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و25 عاما.
هكذا، تم اتخاذ تدابير صارمة وهضمها، والبعض الآخر لا زال مخبئا، في الوقت الذي تنتظر فيه البلاد بترقب، بدء حملة التلقيح ضد "كوفيد-19".