وأدت هذه الأزمة التي صنفها البنك الدولي بواحدة من بين ثلاث أسوأ أزمات اقتصادية في العالم، منذ منتصف القرن 19، إلى انهيار مالي وكساد حاد، زادت من حدتها انعكاسات الأزمة الصحية الناتجة عن جائحة كورونا وانفجار ميناء بيروت.
وبحسب تقديرات البنك الدولي فقد شهدت 2020 انكماش إجمالي الناتج المحلي، إذ انخفض من حوالي 55 مليار دولار عام 2018 إلى ما يقدر بـ20 مليار دولار في 2020، في حين انخفض نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي بنحو 40 في المائة.
ويترقب الخبراء استمرار هذا التراجع إلى حوالي 18 مليار دولار هذا العام، بينما ارتفع معدل الفقر الفعلي من 42 في المائة عام 2019 إلى 82 في المائة خلال العام الذي نودعه.
وبسبب هذه الظروف شهدت البلاد استنزافا خطيرا في الموارد، بما في ذلك رأس المال البشري، خصوصا في قطاع الخدمات والصحة والأبناك.
وقد أثرت الأزمة بشكل خاص، على أربع خدمات عامة أساسية هي الكهرباء، إذ أصبح سقف حلم ساكنة العاصمة بيروت الاستفادة من الكهرباء لمدة ثماني ساعات في اليوم، بدل خمس أو ست ساعات حاليا.
كما أثرت على خدمات مياه الشرب، والصرف الصحي، والتعليم. وشهدت هذه القطاعات المتردية أصلا، تقويضا متزايدا، كما أضرت بشكل كبير بمقومات استمرارية تدبير القطاع العام، الأمر الذي ستكون له انعكاسات وخيمة وطويلة الأمد على الحركية المجتمعية للبلاد، خصوصا الأضرار التي سيشهدها رأس المال البشري.
وبفعل هبوط قيمة العملة المحلية مقابل الدولار، تآكلت رواتب اللبنانيين. واستناداً إلى إحصائيات للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي (تابع للدولة)، فإن 75 في المئة من العاملين بالقطاع الخاص يتقاضون راتباً يقل عن مليوني ليرة (87 دولارا وفق سعر السوق الموازية).
أما في القطاع العام، فيتراوح متوسط الرواتب بين 950 ألف ومليوني ليرة.
وارتفعت أسعار الأدوية بشكل كبير (تضاعفت بأكثر من عشر مرات) بعدما توقفت الحكومة عن دعم السلع المستوردة.
وشهد القطاع المصرفي حالة إفلاس، رغم رفض البنك المركزي الاعتراف بذلك، في ظل خسائر قدرت بعشرات ملايير الدولارات، مما حال بين معظم المودعين وحساباتهم بسبب مسارعة البنوك لإغلاق أبوابها، متدرعة بالمتطلبات الأمنية بسبب الاحتجاجات المناهضة للنخبة السياسية في أكتوبر 2019.
ومما زاد من استفحال الأزمة الجمود السياسي والفراغ الحكومي الذي تشهده البلاد، منذ استقالة حكومة حسان دياب في أعقاب انفجار مرفأ بيروت العام الماضي والذي ألحق أضرارا بأحياء كثيرة من العاصمة.
وقد أدى هذا الجمود إلى تأخير التواصل مع الجهات المانحة وخصوصا التوصل لاتفاق مع البنك الدولي، الذي يعد عاملا أساسيا في خطة إنقاذ واسعة لإصلاح النظام المالي والاقتصادي.
وتفاءل اللبنانيون خيرا بعد تشكيل الحكومة الحالية برئاسة نجيب ميقاتي، والتي حددت لها مهمة استعجالية ، تتمثل في إعداد خطة مستعجلة للإنقاذ وفتح مفاوضات بخصوصها مع البنك الدولي وتنظيم الانتخابات.
غير أن الخلاف بين الثنائي الشيعي (حزب الله وحركة أمل) المشاركين في التحالف الحاكم من جهة، وبين أحزاب المعارضة، حول من له صلاحية التحقيق في ملابسات انفجار الميناء قد عطل عمل الحكومة ، إذ قاطع وزراء الثنائي اجتماعاتها ما لم يسحب ملف القضية من القاضي طارق البيطار، لينضاف إلى ذلك قطع العلاقات الدبلوماسية والمبادلات التجارية مع دول الخليج، التي كان ميقاتي يعول على دعمها في تحفيز المانحين الدوليين على مد يد العون للبنان لتنفيذ خطته الإنقاذية.
كما يعوق الفراغ الحكومي أهم شرط طرحته مؤسسات التمويل الدولية قبل تقديم أي عون مالي للبنان ويتمثل بالخصوص، في إعادة هيكلة الدين وإجراء تدقيق شامل لحسابات البنك المركزي ولكل مؤسسات الدولة، علاوة على تقاسم الخسائر بين الحكومة والبنك المركزي وجمعية البنوك.
وبخصوص الآفاق المستقبلية، قال الكاتب والمحلل السياسي جميل قاسم، في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء، إن الحل يكمن على المدى البعيد في تغيير النظام السياسي الطائفي القائم وإنهاء العمل بمقتضيات اتفاق الطائف وتأسيس الدولة المدنية الحديثة.
وكعمل استعجالي، اعتبر قاسم أن "وحدها حكومة بعيدة عن الأحزاب وذات توجه إصلاحي، قادرة على قيادة لبنان للخروج من الأزمة وإنقاذه من الغرق ومنع المزيد من التشرذم الوطني".
ويستبعد المراقبون تشكيل مثل هذه الحكومة في الظروف الراهنة، نظراً لما تعرفه المنطقة من اضطرابات ولتاريخ لبنان ووضعه الهش ولاعتباره ساحة تتقاطع فيها التجاذبات الطائفية والإقليمية.