ففي بداية صيف جنوبي حار على غير عادة هذا البلد المعتاد على درجات حرارة أكثر اعتدالا، انتخب الشيليون في 19 دجنبر رئيسا جديدا للسنوات الأربع القادمة يمثل النقيض لكل الرؤساء الذين تعاقبوا على رئاسة البلد منذ سلفادور أليندي (1970 - 1973).
في الـ35 من عمره، سيكون غابرييل بوريك أصغر رئيس للجمهورية، غير أن العلامة الفارقة فيما يتعلق بالرئيس الجديد هي ما يمثله الرجل على المستويين السياسي والفكري.
فالشيلي معروفة عالميا بكونها البلد الأكثر ازدهارا بأمريكا اللاتينية، حيث تعتبر ملاذا لرؤوس الأموال الخاصة وجنة المستثمرين في مجال التعدين والتكنولوجيات الحديثة والطاقات المتجددة.
غير أن هذا الازدهار لم يؤد إلى الحد من اتساع هوة عدم المساواة بين أقلية فاحشة الثراء وأغلبية غارقة في الفقر المدقع والديون. ومن هذا الواقع المليء بالتناقضات تكتسب الإصلاحات الهيكلية التي وعد بها بوريك الملايين من منتخبيه أهميتها.
وقد دفع البعد الاجتماعي لوعود بوريك ومواقفه المساندة للبسطاء والعمال والطلبة إلى إقناع أزيد من 4,6 مليون مواطن شيلي للتصويت لصالحه ليصبح المرشح الذي يحصل على أكبر عدد من الأصوات في تاريخ البلاد.
وخلال حملته الانتخابية المبكرة، تموقع بوريك أقصى يسار المشهد السياسي، وهاجم في بعض الأحيان بشدة حكومات يسار الوسط السابقة التي حكمت البلد، خاصة حكومتي ريكاردو لاغوس وميشيل باشليت. ثم مع اقتراب موعد الانتخابات، بدأ بوريك يميل شيئا فشيئا نحو يسار الوسط وارتداء جبة رجل الدولة الجامع الذي يريد أن يكون رئيسا لكل الشيليين.
وقد مثلت إدانة بوريك لنتائج انتخابات نيكاراغوا التي منحت دانييل أورتيغا ولاية رئاسية جديدة خروجا عن المواقف الإيديولوجية التي يتبناها حلفاؤه الشيوعيون.
ويعتبر نظام التقاعد الذي تديره حصرا شركات خاصة أول تحد سيواجهه الرئيس المنتخب الذي وعد بإصلاح هذا النظام من أجل ضمان معاشات تقاعدية لائقة للشيليين بعد سنوات من العمل الشاق.
وسيشكل هذا الإصلاح، الذي سيواجه صعوبة في البرلمان، الخطوة الأولى نحو الوفاء بوعوده بإنهاء التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية التاريخية في الشيلي.
ويعد تولي بوريك حكم الشيلي تتويجا لمسار طويل بدأ في شهر أكتوبر 2019 بأعمال شغب اجتماعية لم يتوقع أكثر المتشائمين حصولها، حيث لا تزال آثارها بادية في وسط العاصمة، ولعل خير شاهد على تلك الاضطرابات التي هزت البلاد هو مركز غابرييلا ميسترال الثقافي الذي أضرم فيه مثيروا الشغب الغاضبون النيران.
فقد طفح الكيل بالشباب الغاضب، وأدى ذلك إلى فضح واقع اجتماعي صعب ونظام تعليمي يكرس التفاوتات بين من يدفعون المال لضمان مستقبلهم، وأولئك الذين ليست لدهم الإمكانيات التي تخولهم الرقي في السلم الاجتماعي.
وأدت أعمال الشغب إلى حدوث شلل في البلاد طوال شهرين، وأسفرت عن اتفاق بين الحكومة وقادة الحراك، ومن بينهم بوريك، لإقامة جمعية تأسيسية مهمتها صياغة قانون أساسي جديد يحل محل القانون الموروث عن حقبة بينوشي.
وبدأ نجم بوريك، بصفته نائبا ورئيسا سابقا لاتحاد الطلبة الشيليين، يسطع خلال المفاوضات مع الحكومة وحملة الاستفتاء على الجمعية التأسيسية، وأصبحت بوادر الانعطاف نحو اليسار واضحة مع انتخاب أعضاء الجمعية التأسيسية البالغ عددهم 155، والذين كان معضمهم من المنتمين للحركات اليسارية ودعاة حماية البيئة وزعماء للشعوب الأصلية.
وفي إشارة أخرى على التغيير بالشيلي، فإن كل مهندسي انتصار بوريك والذين سيحصلون على مناصب رئيسية هم في الثلاثينات من العمر وولدوا مع أفول دكتاتورية أوغوستو بينوشيه.
على الجانب الآخر، أعرب معارضوا الرئيس المنتخب، بحق أو بغير حق، عن تخوفهم من رؤية بلادهم تمضي في مسار دول مثل فنزويلا أو كوبا، وهو ما من شأنه أن يؤدي من وجهة نظرهم إلى المساس بالمكاسب التي تم تحقيقها خلال سنوات الازدهار الاقتصادي الـ 30 الماضية.
وفي خطاب النصر الأول له، وضع بوريك الأمور في نصابها معلنا أن الهدف الرئيسي لحكومته هو توفير مزيد من الحقوق الاجتماعية وعلى أوسع نطاق. فهو يريد إعادة الأمل للشيليين في "دولة الرفاهية" التي ترعاهم من خلال ضخ المزيد من الأموال العامة في تعليم مجاني ونظام صحي متاح للجميع وسكن لائق.
وبعد فوز المرشح بوريك بالانتخابات، يبقى السؤال المطروح هل كان اختيار الشيليين الانعطاف نحو اليسار قرارا حكيما؟
وحده أداء الساكن الجديد لقصر لا مونيدا خلال السنوات الأربع المقبلة يمكن أن يقدم إجابة عن هذا التساؤل.