** الليرة التركية.. السقوط الحر **
رغم الانتعاش الذي تعرفه خلال اليومين الأخيرين بفضل حزمة إجراءات إنقاذ، فقدت الليرة التركية 55 في المئة من قيمتها منذ بداية العام الحالي، بينها 37 في المئة خلال الأيام الثلاثين الماضية.
وعلى مدار هذه السنة عانت الليرة من تدهور حاد، سريع وقياسي، أمام العملات الأجنبية كنتيجة مباشرة لقرارات البنك المركزي خفض سعر الفائدة في البلاد تنفيذا لرؤية الرئيس رجب طيب أردوغان بخصوص سياسة نقدية جديدة تضع حدا لمعدل الفائدة المرتفع، الذي يعتبره الرئيس مضرا بمستقبل النمو، لكونه يحرم الدورة الاقتصادية من رواج "الأموال الساخنة"، المتمثلة في رؤوس الأموال المودعة في الأبناك.
ويعتبر الرئيس التركي أنه من الضروري كسب رهان "الاستقلال الاقتصادي" من خلال تخفيض سعر الفائدة المرتفع جدا بتركيا مقارنة بالاقتصادات المتقدمة والنامية، لتشجيع رجال الأعمال والمستثمرين على اللجوء لقروض مخفضة، وبالتالي تشغيل قطاعات الإنتاج والتصدير وخفض نسبة البطالة، وبالتالي تجنب الركود الاقتصادي.
وطيلة الأشهر الماضية، لم يعد التدهور الكبير في قيمة العملة المحلية، شأنا اقتصاديا محليا، بعدما انتقل الاهتمام المتصاعد بوضع الليرة إلى الخارج، وخاصة المؤسسات المالية الدولية التي تضع تركيا تحت الأضواء الكاشفة، لاسيما وأن هذا التدهور يعزى، بالدرجة الأولى، إلى السياسة النقدية للرئيس المصر على تخفيض سعر الفائدة لمواجهة التضخم في البلاد، الذي بلغ نسبة 20,31 بالمئة في نونبر.
أما دائرة المعارضين لهذه السياسة النقدية فقد اتسعت إلى ما وراء الخصوم السياسيين لتضم أكاديميين وخبراء اقتصاديين محسوبين حتى على الحزب الحاكم، حيث يعتبرون أن أفضل أداة لمواجهة ارتفاع نسبة التضخم هي رفع سعر الفائدة لتثبيت سعر الصرف وأسعار السلع والخدمات في البلاد. هذا الخلاف في المقاربة أسفر عن مسلسل إقالات لوزراء مالية ومحافظي البنك المركزي الذين يعينهم الرئيس نفسه؛ ليتعاقب على المصرف المركزي ثلاثة محافظين في أقل من عام واحد، ما أدى إلى إرباك كبير للاستقرار الاقتصادي.
إردوغان الذي يسابق الزمن لخفض سعر الفائدة والحفاظ على معدل نمو اقتصادي في مستوى معقول قبل حلول موعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية المقررة في 2023، يؤكد أن التقلبات التي تشهدها أسعار الصرف ليست "طبيعية" بل مفتعلة نتيجة المضاربات الحاصلة في السوق المالي، كونها لا تتسق مع النمو الاقتصادي للبلاد.
وبالفعل، وبعد انكماش في المؤشرات فرضته جائحة "كورونا" على أدائها الاقتصادي على غرار باقي دول المعمور، تمكنت تركيا، حسب بيانات رسمية، من احتلال الصدارة على مستوى العالم هذا العام، من حيث نسبة النمو التي بلغت 7 في المئة خلال الربع الأول من سنة 2021، و21 في المئة خلال الربع الثاني من العام نفسه، مع توقع إغلاق السنة بنسبة نمو تتراوح بين 9 و10 في المئة.
وبغية الحفاظ على هذا الزخم الاقتصادي، تعول تركيا على عائدات صادراتها التي بلغت 215.7 مليار دولار بحلول متم أكتوبر الماضي، حيث حققت إيرادات السياحة 22 مليار دولار بين يناير وأكتوبر 2021، (21 مليون سائح)، وتجاوزت صادرات الصناعات الدفاعية ما بين يناير ونونبر الماضيين، مليارين و793 مليون دولار (بنسبة + 39,7 بالمئة عن الفترة ذاتها)، فيما ارتفع حجم الاستثمارات الأجنبية إلى 9,8 مليار دولار ما بين يناير وشتنبر 2021.
** على بعد خطوة من الانتخابات .. المنافسة تحتدم **
مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، التي يجمع الكل على أنها استحقاقات حاسمة بالنسبة لمستقبل البلاد، لم تكن المعارضة لتفوت فرصة توظيف تراجع سعر الليرة، شديد الوطأة على المعيش اليومي للمواطن التركي، في خطابها المناوئ للحكومة، محذرة من أن الإصرار على الاستمرار في خفض سعر الفائدة يفيد بكل بساطة بأن الليرة لم تصل بعد لأدنى قيمة لها، ما يعني المزيد من التخبط الاقتصادي والغموض بخصوص الثقة في السياسات المالية والقدرة على استشراف المستقبل.
وتحمل المعارضة الحكومات المتعاقبة للعدالة والتنمية مسؤولية العجز عن حل المشاكل البنيوية للاقتصاد، بما في ذلك التعامل مع الضغوط الخارجية والتلاعب والمضاربات التي تقول هذه الحكومات إنها تتربص باقتصاد البلاد، معتبرة أنه من واجب هذه الحكومات تبني من الإجراءات والإصلاحات ما يحصن الاقتصاد من هذه الممارسات.
وتذهب المعارضة، وفي مقدمتها حزبا الشعب الجمهوري والجيد (تحالف الأمة)، إلى أن المتاعب الاقتصادية لتركيا ستتواصل ليس فقط بسبب تبعات السياسة الاقتصادية للرئيس التركي، ولكن بالنظر إلى توجهاته المرتبطة بالسياسات الخارجية في السنوات الأخيرة، فأنقرة تؤدي فاتورة تشنج العلاقات مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والناتو، هذا إلى جانب "تورطها" المتزايد في قضايا وملفات إقليمية، بما فيها النزاعات المسلحة، لاسيما في كل من سوريا والعراق وليبيا ومنطقة القوقاز، ما يكلف أنقرة سياسيا واقتصاديا على حد سواء.
وفي هذا السياق، سارعت أحزاب المعارضة إلى المطالبة بانتخابات "فورية" بدل "مبكرة"، إدراكا منها لدلالة الزمن السياسي وأهمية استغلال التطورات الاقتصادية لصالحها في صناديق الاقتراع؛ وذلك في مناورة استباقية قبل تمكن الحزب الحاكم من إقناع الشارع بنجاعة اختياراته الرامية إلى ضمان الاستقلال الاقتصادي للبلاد، وتحكمه في ارتداداتها السلبية، وذلك من خلال تقديم دعم أكثر سخاء، يستهدف الرفع من الحد الأدنى للأجور ورواتب الموظفين وضبط منحنى التضخم.
صحيح أن الوضع الاقتصادي المتأرجح قد يلعب لصالح ترجيح كفة المعارضة ولو بشكل مرحلي، لكن لن يكون بمقدورها إجبار الحزب الحاكم، لا من الناحية الدستورية أو التقنية، على تنظيم انتخابات مبكرة، كونها لا تملك الأغلبية المطلوبة في البرلمان في ظل استمرار "تحالف الجمهور" الذي يضم الحركة القومية والعدالة والتنمية.
ففي المشهد السياسي التركي تبقى الخيارات الصعبة في هذه المرحلة الدقيقة مطروحة على الأغلبية والمعارضة، إذ في الوقت الذي تحرص فيه الأولى على تماسك تحالف الجمهور، والاشتغال على استقطاب الأحزاب الصغرى أو تلك التي انشقت عنه للحيلولة دون خصمها من شعبيته ورصيده الانتخابي، تجاهد الثانية لصمود تحالفها أمام العديد من الخلافات الجوهرية المستعصية، ليس أقلها التوافق على منافس أردوغان للرئاسة.
وبالفعل، فعلى الرغم من التأكيد المتكرر لزعيم حزب "الشعب الجمهوري" كمال كليتشدار أوغلو رغبته في عدم ترشيح أكرم إمام أوغلو رئيس بلدية إسطنبول للانتخابات الرئاسية المقبلة، تعبر ميرال أقشينار زعيمة حزب "الجيد"، التي تدفع في اتجاه عودة النظام البرلماني، عن دعمها القوي لترشيح إمام أوغلو، وبدرجة أقل منصور يافاش رئيس بلدية أنقرة، ما يعكس جدية الخلاف داخل تحالف المعارضة، ليبقى مرشح المعارضة للانتخابات الرئاسية السؤال الأبرز والأهم في تركيا في الوقت الراهن.
أما الرئيس الحالي رجب طيب أردوغان الذي حسم تحالف الجمهور في ترشيحه لولاية أخرى، فيسعى جاهدا لترتيب أوراقه، إن على المستوى الداخلي، عبر التحلي بالحذر في إدارة الملف الاقتصادي، أو الخارجي من خلال تحسين علاقات أنقرة الخارجية، وفي مقدمتها بلدان الخليج.
** المصالحة مع الفاعلين المؤثرين إقليميا.. عنوان المرحلة **
أضحى "صفر مشاكل" الذي ترفعه أنقرة شعارا لعلاقاتها الخارجية، أكثر وضوحا في تحركاتها الدبلوماسية الأخيرة، فتركيا تبدو أكثر استعدادا لتجاوز الخلافات و"سوء الفهم"، تغليبا للمصالح الاستراتيجية؛ من خلال تسخير الدبلوماسية الاقتصادية لإصلاح ما أفسدته السياسة. أنقرة تعبر بوضوح عن رغبتها في طي صفحة الخلافات مع عدة عواصم عربية، وفي مقدمتها القاهرة وأبو ظبي والرياض، التي بدأت تتقارب معها من خلال تبادل زيارات رفيعة المستوى والتوقيع على عدد من الاتفاقيات ذات البعد الاقتصادي.
وفي علاقاتها مع الغرب، تحاول أنقرة الحفاظ قدر الإمكان على وضع "الهدوء الحذر والترقب" اتجاه واشنطن والناتو من خلال تفادي لغة الاستفزاز، والإبقاء على توازن المصالح الاستراتيجية إقليميا مع موسكو، أما ملف الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي فيبدو أنها أبعد ما تكون عن ذلك في الوقت الراهن، بالنظر إلى اتساع الهوة في ظل الصعود المتواصل لليمين في أوروبا، واختلاف المقاربات بشأن عدة ملفات، أبرزها الهجرة وحقوق الانسان.
وفي المحصلة، وعلى بعد 18 شهرا على معركة الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، يدرك حزب العدالة والتنمية الماسك بزمام السلطة أن هذه المحطة ستكون أصعب من سابقاتها، ما يضعه أمام تحدي استدراك الزمن السياسي لترتيب الأولويات وفي مقدمتها حل الأزمة الاقتصادية بارتداداتها السياسية والمجتمعية، فالورقة الاقتصادية ستشكل، لا محالة، العامل الحاسم في اختيار الناخب.